- النقاط
- 1,361
في حيٍ شعبيّ عتيق من أحياء القاهرة، وُلدت فتاةٌ تُدعى أسماء، وكأن اسمها اختير بعنايةٍ ليطابق جوهرها. كانت تمشي بين الناس وكأنها آيةٌ في الجمال والوداعة. لم تكن فتاةً عادية تمر بجانبك دون أن تلتفت، بل كانت مثل شعاع شمسٍ ناعمٍ في صباح شتوي، يدفئ القلب دون أن يحرّق، ويضيء دون أن يزعج. عيونها كانت بلون العسل الصافي، واسعتان تلمعان بالبراءة، تتحدثان أكثر مما تتحدث شفتاها، وترويان قصصًا من الطيبة والرحمة. شعرها أسود كأحلك ليالي الشتاء، لكنه ناعم كسيلٍ من الحرير إذا انسدل على كتفيها، يعكس الضوء ويتمايل مع النسيم كأنه كائن حي. شفتاها دائمتا الابتسام، ابتسامة ليست من النوع الذي يُصنع أو يُجامل، بل تلك التي تولد من أعماق روح نقية لا تعرف إلا الخير.
بشرتها ناصعة البياض، كأنها قُدّت من الحليب والسكر، ملساء كأنها لم تعرف شوائب الدنيا. حتى طريقة سيرها كانت تحمل هدوء العارفين، وكأن الأرض تخجل أن تُصدر صوتًا تحت قدميها. وكان لصوتها أثرٌ لا يُنسى؛ ناعمٌ، رخيمٌ، إذا تحدّثت سكن الضجيج، وإذا همست، ارتجفت القلوب.
أسماء لم تكن فقط جميلة المظهر، بل كانت الأجمل في جوهرها. كانت تُعامل الجميع بلطف مبالغ فيه، نعم، مبالغ فيه لدرجة أن البعض اتهمها بالسذاجة. كانت تساعد كل من حولها بلا مقابل، توزع الطعام على الفقراء، وتزور الجارات الكبيرات في السنّ، وتُضحك الأطفال، وتربت على قلوب الحزانى. لم تكن تعرف الحقد، ولا تحفظ الإساءة. كانت كالماء، تمر على كل قلب، وتترك فيه أثرًا نقيًا. ومع كل هذا، لم تكن تتوقع شيئًا من أحد، ولم تكن تنتظر شكرًا أو عرفانًا، بل كانت تفعل ذلك لأنها فقط... تحب الناس.
لكن النقاء لا يُفهم دائمًا في هذا العالم. فبينما كانت القلوب البريئة تُحبها، كانت هناك عين تراقبها بريبة، وبدلًا من أن ترى جمالها، كانت ترى في طيبتها ضعفًا، وفي لطفها خيانة. هذه العين لم تكن لعدوٍ أو غريب، بل كانت من أقرب الناس إليها... والدها، فتحي.
كان فتحي رجلاً خشناً، نشأ في بيئة قاسية لا تعرف الرحمة، بيئة تعلم فيها أن اللطف ضعف، وأن البنت إذا ضحكت كثيرًا، فهي بالتأكيد تخفي شيئًا. لم يستوعب يومًا نقاء أسماء، ولم يكن يرى في تصرفاتها سوى سوء نية مغلّف بالبراءة. كلما رآها تبتسم لأحد في الطريق، اشتعلت النار في صدره. كلما سمع من أحدهم دعاءً لها، ظن أن وراءه شيئًا. لم يكن يتحدث كثيرًا معها، لكنه كان يراقبها بصمت، وعينيه تمتلئان شكًا وظنونًا سوداء. كان يظن أن ابنته تُخفي عنه سرًا، وأن هذا اللطف كله لا يمكن أن يكون بريئًا.
في يومٍ من الأيام، وبينما كانت أسماء عائدة من السوق، رآها والدها من نافذة البيت تُعطي رجلاً عجوزًا زجاجة ماء وتبتسم له، ثم تساعده على حمل حقيبته. المشهد كان بسيطًا لأي إنسان عاقل، لكنه عند فتحي كان كأنها خنجر في قلبه. عاد إلى البيت، وجهه شاحب، وكأن نارًا تأكله من الداخل. لم يتحدث، لم يوبخ، فقط جلس بصمت وهو يضغط على يديه بشدة، وعيناه لا تغادران باب الغرفة التي دخلتها ابنته.
أسماء لم تكن تعلم ما يعتمل في صدر أبيها، فقد اعتادت صمته وظنت أن صلابته هي طريقته في التعبير. دخلت غرفتها في الليل، لبست فستانها الأبيض الذي تحبه، وجلست تقرأ سورة "يس" كعادتها قبل النوم. وجهها مشرقٌ تحت ضوء المصباح الصغير، وعطر الورد يملأ الغرفة.
فتح فتحي باب الغرفة ببطء، وقفت أسماء فورًا وقالت بابتسامة ناعمة: "بابا... وحشتني." لم يرد. مشى نحوها بخطى بطيئة، وعيناه تتحركان بين عينيها وابتسامتها. في لحظة خاطفة، أخرج سكينًا صغيرة كان يخفيها في جيبه، وبحركة واحدة، طعنها في صدرها. لم تصرخ. سقطت على الأرض والدم ينساب منها بهدوء، كأن الحياة تغادرها بنفس الرقة التي كانت تعيش بها. رفعت عينيها نحوه، وابتسمت، وقالت بصوت بالكاد يُسمع: "أنا كنت بس... بحب الناس." ثم أغلقت عينيها، للأبد.
جلس بجانبها، لم يفهم ما فعل، لم يشعر بالندم مباشرة، فقط نظر لدمها على يديه، وتساقطت دموعه فجأة، لأول مرة منذ سنوات. حين جاءت الشرطة، لم يقاوم، ولم يُنكر. فقط قال بهدوء: "هي كانت بتضحك كتير… أنا خفت." كلماته كانت أغرب من أن تُفهم، كأنها صرخة جهلٍ في وجه الطهارة.
مرّت السنوات، وأصبح قبر أسماء مقصدًا لكل من عرفها. كانت تُوضع وردة بيضاء على قبرها كل صباح، لا أحد يعرف من يضعها، لكن أهل الحي قالوا إنها ليست من البشر، بل ملاك من السماء، يأتي ليواسي من وُلدت من نور وماتت من سوء ظن. أما فتحي، فظل في سجنه صامتًا، يتحدث أحيانًا مع نفسه، يتخيل وجهها، ويسأل: "هي كانت تضحك ليه؟ كنت أنا الغلط؟"
ولم يكن هناك من يجيبه، لأن الطيبين حين يُغدر بهم، لا يتركون خلفهم إجابات... بل يتركون وجعًا لا يُشفى.
بشرتها ناصعة البياض، كأنها قُدّت من الحليب والسكر، ملساء كأنها لم تعرف شوائب الدنيا. حتى طريقة سيرها كانت تحمل هدوء العارفين، وكأن الأرض تخجل أن تُصدر صوتًا تحت قدميها. وكان لصوتها أثرٌ لا يُنسى؛ ناعمٌ، رخيمٌ، إذا تحدّثت سكن الضجيج، وإذا همست، ارتجفت القلوب.
أسماء لم تكن فقط جميلة المظهر، بل كانت الأجمل في جوهرها. كانت تُعامل الجميع بلطف مبالغ فيه، نعم، مبالغ فيه لدرجة أن البعض اتهمها بالسذاجة. كانت تساعد كل من حولها بلا مقابل، توزع الطعام على الفقراء، وتزور الجارات الكبيرات في السنّ، وتُضحك الأطفال، وتربت على قلوب الحزانى. لم تكن تعرف الحقد، ولا تحفظ الإساءة. كانت كالماء، تمر على كل قلب، وتترك فيه أثرًا نقيًا. ومع كل هذا، لم تكن تتوقع شيئًا من أحد، ولم تكن تنتظر شكرًا أو عرفانًا، بل كانت تفعل ذلك لأنها فقط... تحب الناس.
لكن النقاء لا يُفهم دائمًا في هذا العالم. فبينما كانت القلوب البريئة تُحبها، كانت هناك عين تراقبها بريبة، وبدلًا من أن ترى جمالها، كانت ترى في طيبتها ضعفًا، وفي لطفها خيانة. هذه العين لم تكن لعدوٍ أو غريب، بل كانت من أقرب الناس إليها... والدها، فتحي.
كان فتحي رجلاً خشناً، نشأ في بيئة قاسية لا تعرف الرحمة، بيئة تعلم فيها أن اللطف ضعف، وأن البنت إذا ضحكت كثيرًا، فهي بالتأكيد تخفي شيئًا. لم يستوعب يومًا نقاء أسماء، ولم يكن يرى في تصرفاتها سوى سوء نية مغلّف بالبراءة. كلما رآها تبتسم لأحد في الطريق، اشتعلت النار في صدره. كلما سمع من أحدهم دعاءً لها، ظن أن وراءه شيئًا. لم يكن يتحدث كثيرًا معها، لكنه كان يراقبها بصمت، وعينيه تمتلئان شكًا وظنونًا سوداء. كان يظن أن ابنته تُخفي عنه سرًا، وأن هذا اللطف كله لا يمكن أن يكون بريئًا.
في يومٍ من الأيام، وبينما كانت أسماء عائدة من السوق، رآها والدها من نافذة البيت تُعطي رجلاً عجوزًا زجاجة ماء وتبتسم له، ثم تساعده على حمل حقيبته. المشهد كان بسيطًا لأي إنسان عاقل، لكنه عند فتحي كان كأنها خنجر في قلبه. عاد إلى البيت، وجهه شاحب، وكأن نارًا تأكله من الداخل. لم يتحدث، لم يوبخ، فقط جلس بصمت وهو يضغط على يديه بشدة، وعيناه لا تغادران باب الغرفة التي دخلتها ابنته.
أسماء لم تكن تعلم ما يعتمل في صدر أبيها، فقد اعتادت صمته وظنت أن صلابته هي طريقته في التعبير. دخلت غرفتها في الليل، لبست فستانها الأبيض الذي تحبه، وجلست تقرأ سورة "يس" كعادتها قبل النوم. وجهها مشرقٌ تحت ضوء المصباح الصغير، وعطر الورد يملأ الغرفة.
فتح فتحي باب الغرفة ببطء، وقفت أسماء فورًا وقالت بابتسامة ناعمة: "بابا... وحشتني." لم يرد. مشى نحوها بخطى بطيئة، وعيناه تتحركان بين عينيها وابتسامتها. في لحظة خاطفة، أخرج سكينًا صغيرة كان يخفيها في جيبه، وبحركة واحدة، طعنها في صدرها. لم تصرخ. سقطت على الأرض والدم ينساب منها بهدوء، كأن الحياة تغادرها بنفس الرقة التي كانت تعيش بها. رفعت عينيها نحوه، وابتسمت، وقالت بصوت بالكاد يُسمع: "أنا كنت بس... بحب الناس." ثم أغلقت عينيها، للأبد.
جلس بجانبها، لم يفهم ما فعل، لم يشعر بالندم مباشرة، فقط نظر لدمها على يديه، وتساقطت دموعه فجأة، لأول مرة منذ سنوات. حين جاءت الشرطة، لم يقاوم، ولم يُنكر. فقط قال بهدوء: "هي كانت بتضحك كتير… أنا خفت." كلماته كانت أغرب من أن تُفهم، كأنها صرخة جهلٍ في وجه الطهارة.
مرّت السنوات، وأصبح قبر أسماء مقصدًا لكل من عرفها. كانت تُوضع وردة بيضاء على قبرها كل صباح، لا أحد يعرف من يضعها، لكن أهل الحي قالوا إنها ليست من البشر، بل ملاك من السماء، يأتي ليواسي من وُلدت من نور وماتت من سوء ظن. أما فتحي، فظل في سجنه صامتًا، يتحدث أحيانًا مع نفسه، يتخيل وجهها، ويسأل: "هي كانت تضحك ليه؟ كنت أنا الغلط؟"
ولم يكن هناك من يجيبه، لأن الطيبين حين يُغدر بهم، لا يتركون خلفهم إجابات... بل يتركون وجعًا لا يُشفى.