عربية فصحي أسماء... ماتت وهي تبحث عن حضن (1 المشاهدين)

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع نسيم الرحمة
  • تاريخ البدء تاريخ البدء
  • 1
  • المشاهدات المشاهدات 32
  • الوسوم الوسوم
    أسماء
  • Tagged users Tagged users لا شيء

نسيم الرحمة

سكساتي نشيط

عضو
سكساتي متفاعل
النقاط
1,361
في بيت ضيق يختبئ عن ضوء المدينة ودفئها، وُلدت أسماء... ولم يفرح أحد.
في اللحظة التي صرخ فيها جسدها الصغير لتعلن قدومها، لم تحتضنها يد، ولم تباركها دعوة. كانت الحياة قد كتبت على جبينها منذ ولادتها: "وُجدت في المكان الخطأ، لعلها تغادره يومًا بالدموع".

أسماء كانت ناعمة كنسمة، صوتها همس، خطواتها لا تُسمع، وعيونها… عيونها كانت بئرًا من الحزن العميق، تلمع كالنجوم لكنها تحمل في عمقها خذلان الدنيا كله. وجهها صغير، هادئ، كأنها كُتبت لتكون ملاكًا في عالم لا يعترف بالملائكة. خدّاها دائمًا شاحبين، لا لأن الجمال غاب عنها، بل لأن الوجع سكن فيها مبكرًا. كانت تبتسم، نعم، لكنها من النوع الذي يوجع القلب... ابتسامة لا تقول "أنا سعيدة"، بل "أنا أحاول أن لا أنهار أمامكم".

كانت أسماء تفيق كل صباح على صراخ، لا يختلف عن صراخ البارحة، ولا يتغيّر عن صراخ الغد. أمها سيدة ضعيفة، مكسورة الظهر، مكسورة الصوت، ووالدها... والدها كان رجلًا لا يحب شيئًا في الحياة، لا زوجته، ولا ابنته، ولا حتى نفسه. لم يكن يضرب أسماء فقط، بل كان يسحب منها روحها ضربة ضربة. يوبخها على كل شيء، على نظرتها، على تنفسها، على وجودها.
"ليه **** ابتلاني بيكي؟"،
"لو كنت ولد، كنت افتخرت بيكي"،
"انتي شوكة في حلقي"،
كلمات كانت تقع على قلبها كالسكاكين، ومع كل طعنة، كانت تصمت أكثر.

كبرت أسماء، ولم تكبر معها طفولتها. لم تلعب مثل البنات، لم تضحك، لم تحتفل بعيد ميلاد، لم تسمع كلمة "أنا فخور بيكي". كانت وحيدة، حتى في قلب الزحام، تحمل حقيبة ثقيلة من الوجع، وتمشي بها إلى المدرسة، إلى السوق، إلى البيت... وكلما أرادت أن تصرخ، صمتت.
كانت تحفظ الوجع مثل آية، ترددها كل ليلة قبل النوم.

في المدرسة، كانت متفوقة، لا لأنها تحب الدراسة، بل لأنها كانت تهرب فيها من حياتها.
كانت المعلمة تقول عنها: "هادية بس جواها كلام كتير".
وكان زملاؤها يقولون: "أسماء لما تضحك، تحس إن الدنيا حلوة... بس نادراً ما بتضحك".

وكانت تحب البحر، وإن لم تره كثيرًا. كانت ترسمه، وتكتب اسمه في كل دفتر، وتقول:
"البحر زيي… صوته هادي… وجواه وجع كتير محدش شايفه".

وذات يوم، عادت أسماء من المدرسة فرحة، أول مرة تفرح فيها منذ زمن. أُعجب المدير برسمة لها عن الوطن والأم، وقال أمام الفصل: "هذه فتاة سيكون لها شأن". ركضت إلى بيتها تحمل الشهادة في يد، والفرحة في يد. طرقت الباب، فتح والدها، نظرت إليه بخجل الطفلة التي تنتظر كلمة حلوة، وقالت:
"بابا... شوف إيه كتبوا عني".
نظر إليها، لم يقرأ شيئًا، بل قال ببرود:
"هتفيديني بإيه؟ رسمة؟! لما تطبخي كويس ابقي قوليلي".
وأغلق الباب في وجهها.

تكسّرت فرحتها في لحظة، سقطت الورقة من يدها، وانكمشت على ركبتيها أمام الباب، تبكي كأنها فقدت نفسها، وليس فقط كلمته.

وفي تلك الليلة، جلست على سريرها، تنظر إلى السقف، تراجع كل لحظة من عمرها القصير. لم يكن في ذاكرتها حضن، ولا كلمة حنونة، ولا لحظة أمان. كتبت في دفترها كلماتها الأخيرة:
"أنا مش زعلانة منكم… أنا بس تعبت. كنت عايزة أعيش، مش أتحمّل. كنت عايزة أكون بنتكم، مش عبء عليكم. كنت بضحك علشان ما تخافوش، بس أنا كنت خايفة طول الوقت. خايفة من بكرة، من النهاردة، من نفسي. أنا آسفة لو كنت حمل تقيل… بس خلاص، هرتاح."

في الصباح، لم تفتح أسماء باب غرفتها.
لم ترد على نداءات أمها الخافتة.
ولما فُتح الباب… وُجدت أسماء نائمة على سريرها، عيناها نصف مفتوحة، وعلى شفتيها… نصف ابتسامة.

توفيت أسماء بعد أن تناولت جرعة قاتلة من دواء والدتها، الذي كانت تخفيه منذ أسابيع، تنتظر فقط "متى تتوقف قدرتها على التحمّل".

بكت أمها، وبكت المعلمة، وبكى زملاؤها، وأهل الحي، والجدران التي سمعت صمتها لسنوات.
أما والدها… فجلس على الأرض، يقرأ دفترها، يرتجف، ثم صرخ صرخة لم يصرخها من قبل، صرخة رجل فهم متأخرًا أنه قتل أجمل ما في حياته، لا بيده فقط… بل بقلبه البارد، وعينه العمياء.

في جنازتها، سارت القرية كلها خلف النعش، وكلهم يتهامسون:
"دي كانت أنضف قلب فينا".
"دي كانت مسكينة بس شريفة".
"دي ماتت لأن محدش حبها".
وقُرئت على قبرها عبارة:
"هنا ترقد أسماء… التي لم تسمع يومًا كلمة: أنتِ غالية."

وماتت أسماء… لا لأنها ضعيفة، بل لأنها لم تجد أحدًا يراها قوية.
وماتت… بعدما حاولت كثيرًا، وانتظرت طويلًا، لكن… ما عاد فيها قلب يتحمل​
 
مواضيع مشابهة الأكثر مشاهدة عرض المزيد

المستخدمون الذين يشاهدون هذا الموضوع

عودة
أعلى أسفل